وبالمثل، فإن تركيا تُعد اليوم ضامنة لأجواء السلام والطمأنينة التي استعادها إخوتنا في منطقة البلقان، وهي جزء من جغرافيتنا الروحية والتاريخية، بعدما عانوا من التهجير القسري والإبادة خلال حروب 1877-1878، وحربي البلقان الأولى والثانية، والحرب العالمية الأولى، وذلك بفضل دعم الدولة التركية.
غير أن هذا الجو الإيجابي الذي تم الوصول إليه تعكّره مشكلة التضخم المرتفع وغلاء الأسعار، والتي تزداد حدّتها منذ عدة سنوات، رغم جميع الجهود الوقائية المبذولة، إذ تسير وتيرة انخفاضها ببطء. وهذه المشكلة تُعدّ أكبر بلاء يهدد شروط الاستقرار السياسي، وهي انعكاس لوضع اقتصادي هشّ وغير صحي أدى إلى تراجع قيمة الليرة التركية.
في حين أن المنظمة الانفصالية قد وصلت إلى حافة الهزيمة ميدانياً، فإنها تواصل حملتها الدعائية السوداء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مدعومة من الدول الغربية وإسرائيل، وهو ما يؤثر على شريحة الشباب التي تتراوح أعمارها بين 25 و30 عاماً، والتي لا تعرف شيئاً عن حالة التخلف التي كانت عليها البلاد قبل ربع قرن، ولا عن ظروف الاستغلال التي فرضتها القوى الكبرى، ولا عن حجم التقدم الذي أحرزته تركيا في مجال التنمية.
أما حزب المعارضة الرئيسي وغيره، فيقومون باستغلال حساسية الشباب تجاه الاستفزاز بسهولة، رغم أنهم لا يملكون أية مشاريع اقتصادية أو تنموية بديلة للمستقبل. بل وعلى الرغم من أن قضايا الفساد والسرقة في البلديات التي يديرونها قد وصلت إلى القضاء، فإنهم يتصرفون كـ "اللص الجريء" الذي يهدد القضاء للتغطية على جرائمه، ويسعون إلى الضغط على الحكومة من خلال إشعال الشوارع بأعمال الشغب والفوضى لدفعها نحو انتخابات مبكرة.
الحكومة التي جاءت إلى الحكم في أعقاب الثورة السورية التي وقعت في كانون الأول/ديسمبر 2024، برئاسة الجولاني، تتخذ موقفًا لا يتماشى مع استراتيجيات التوسع الإسرائيلي، وذلك بدعم واهتمام كبير من تركيا. إسرائيل ترى في هذا الوضع الجديد استعدادًا لتهديد محتمل ضدها، وتحنّ إلى عودة سوريا إلى عهد الأسد. وفي هذا السياق، تستعد لاحتمال وقوع صدام مع تركيا.
درجة تدخل الولايات المتحدة في حال نشوب صراع محتمل بين تركيا وإسرائيل ستعتمد على نطاق هذا الصراع، مدته، وتأثيراته الإقليمية.
وعند تقييم الأمر من زاوية المصالح الأمريكية، يمكننا استشراف الاحتمالات التالية في حال وقوع مثل هذا الصراع:
- التدخل الدبلوماسي: تحاول الولايات المتحدة منع الصراع في المقام الأول
عادةً ما تبدأ العداوات بين الدول بالتصعيد من خلال المسارات الدبلوماسية قبل أن تتحول إلى صراع عسكري. أي أن الحل يُسعى إليه أولاً عبر الوسائل الدبلوماسية، وتُعدّ الحرب أو الصدام المسلح آخر الخيارات.
لكن يجب ألا نغفل عن حقيقة أنه بعد الحرب الباردة، أصبح من الشائع أن تُفضّل كل من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وإسرائيل استخدام نمط "الحرب غير المعلنة" بدلًا من إعطاء الأولوية للدبلوماسية. ويُلاحظ بشكل متزايد في عالمنا اليوم أسلوب "الضربة الوقائية" الذي طُور في تقرير صادر عن مؤسسة راند (Rand Corporation) كرد على غزو صدام حسين للكويت عام 1991، حيث يُتخذ إجراء عسكري استباقي دون إعلان رسمي للحرب.
على الرغم من أن الولايات المتحدة تُعد الحليف الأكبر لإسرائيل، فإن تركيا أيضًا عضو في حلف الناتو وتُعتبر فاعلًا استراتيجيًا مهمًا بالنسبة لواشنطن. ولهذا السبب، فإن الولايات المتحدة في البداية:
- تحاول القيام بوساطة دبلوماسية بين تركيا وإسرائيل.
- تسعى إلى ثني تركيا عن الدخول في الصراع، نظراً لمكانتها داخل حلف الناتو.
- تدعو إلى حل سلمي عبر الأمم المتحدة والفاعلين الإقليميين.
- ولكن، إذا فشلت الجهود الدبلوماسية، يصبح موقف الولايات المتحدة أكثر وضوحًا وحسمًا.
- الدعم العسكري لإسرائيل: تدخل مباشر أو غير مباشر
تُعد الولايات المتحدة أكبر جهة ضامنة لأمن إسرائيل، ومن المرجح جدًا أن تقدّم لها دعمًا عسكريًا مباشرًا. وقد يشمل هذا الدعم ما يلي:- الدعم غير المباشر (محتمل):
- الدعم بالسلاح والذخيرة: قد تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل طائرات F-35، وذخائر، وأنظمة دفاع جوي مثل "القبة الحديدية" و"آرو" و"مقلاع داوود"، بالإضافة إلى دعم في مجال الحرب الإلكترونية.
- الدعم الاستخباراتي والسيبراني: تقوم برصد التحركات العسكرية التركية وتزويد إسرائيل بالمعلومات الاستخباراتية، وقد تنفذ هجمات سيبرانية لإلحاق الضرر بالأنظمة العسكرية التركية.
- تعزيز الوجود العسكري الإقليمي: رغم أن عودة ترامب إلى الرئاسة قد توحي بسياسة تقليص الوجود البري في سوريا، في إطار مبدأ الاقتصاد العسكري من أجل التركيز على التنافس مع الصين في المحيط الهندي والهادئ، إلا أن الولايات المتحدة قد تعمد إلى تعزيز وجودها العسكري في شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر بهدف ممارسة الضغط على تركيا.
- التدخل المباشر (احتمال منخفض) [1]
عند اتخاذ قرارات التدخل العسكري، يجب أن يُؤخذ في الاعتبار إلى أي مدى يتم اتباع عملية عقلانية تعتمد على مصالح الولايات المتحدة التي تدعم التدخلات العسكرية، وتحليل الفوائد مقابل التكاليف، مع الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات البيروقراطية والتنظيمية بشكل واضح.
إذا تحوّل الصراع إلى حرب واسعة النطاق وواجهت إسرائيل تهديدًا جديًا، فإن الولايات المتحدة قد:
- التدخل المباشر (احتمال منخفض) [1]
- قد تنفذ غارات جوية. حتى إذا لم تقم الولايات المتحدة بشن غارات جوية على المنشآت الاستراتيجية التركية، فهي قد تدعم العمليات الجوية الإسرائيلية.
- قد تُفعّل دور الناتو. إلا أن كون تركيا عضوًا في الناتو يجعل هذا الأمر معقدًا ويخلق مأزقًا للولايات المتحدة.
- قد تستخدم قواتها البحرية في البحر الأبيض المتوسط لممارسة ضغط عسكري على تركيا.
ومع ذلك، وبفضل تعزيز القدرات الدفاعية التركية، يجب على الدول المعادية أن تأخذ في الاعتبار أن احتمال تدخل عسكري أمريكي من هذا النوع يمكن أن يُحبط دون وقوعه، بالإضافة إلى قدرة تركيا على الرد بعمليات غير متماثلة وتقنية تُكلف الخصم كثيرًا.
- الضغوط الاقتصادية والسياسية ضد تركيا
- بدلاً من التدخل العسكري المباشر، قد تستخدم الولايات المتحدة أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي ضد تركيا:
- حظر الصناعات الدفاعية: قد تُصعّب على تركيا شراء الأسلحة والذخائر من الولايات المتحدة أو الدول الغربية.
- العقوبات: قد تفرض عقوبات اقتصادية وقيودًا مالية على تركيا.
- محاولة إضعاف مكانة تركيا الدولية: خاصة من خلال تشجيع عزل تركيا داخل حلف الناتو والكتلة الغربية.
- الرد المحتمل من تركيا والسيناريوهات المتوقعة
رداً على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، قد تقوم تركيا بـ:
- تعزيز علاقاتها العسكرية والاقتصادية مع روسيا والصين.
- تقييد أو إغلاق قواعد أمريكية مثل قاعدة إنجرليك.
- تبني استراتيجية أكثر عدوانية ضد الولايات المتحدة وحلفائها في شرق البحر المتوسط.
أي أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل، لكنها تتجنب الصراع المباشر مع تركيا:
- من المؤكد أن الولايات المتحدة ستحمي إسرائيل بشكل كامل، لكنها لن تفضل الدخول في حرب مباشرة مع تركيا.
- قد تسعى الولايات المتحدة لإضعاف تركيا من خلال الضغوط الاقتصادية والسياسية.
- قد تدعم وصول المعارضة الرئيسية إلى الحكم، مثل دعم ترشيح رئيس بلدية إسطنبول السابق، إكرم إمام أوغلو، للرئاسة حتى وإن كان في السجن، من خلال تأجيج الفوضى الداخلية وتعزيز السخط الشعبي الناتج عن التضخم وغلاء المعيشة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
- قد تساعد المعارضة، علناً أو سراً، في الضغط على الحكومة للذهاب إلى انتخابات مبكرة، التي من المفترض إجراؤها عام 2028.
- عسكرياً، قد توفر الولايات المتحدة لإسرائيل دعماً لوجستياً واستخباراتياً واسع النطاق، لكن احتمالية دخولها في حرب مباشرة ضد تركيا منخفضة.
درجة حدوث هذه السيناريوهات تعتمد على حجم الصراع وردود الفعل الدولية. أسوأ سيناريو بالنسبة للولايات المتحدة هو اقتراب تركيا أكثر من روسيا والصين وابتعادها عن الغرب. لذلك، ستحاول الولايات المتحدة اتباع نهج متوازن أثناء إدارة الأزمة.
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 (التي ظهرت لاحقًا في الرأي العام الأمريكي بعض الكتابات التي تشير إلى أن هذه الأحداث كانت مؤامرة لتبرير السياسات الإمبريالية الأمريكية في الدول الإسلامية)، أعادت الولايات المتحدة تشكيل سياستها للأمن القومي. أعلن الرئيس بوش ومسؤولو إدارته أنه في ظل ظروف معينة مستقبلاً، ستقوم الولايات المتحدة بمهاجمة أعدائها قبل أن يتعرضوا لهجوم، لأن الردع والدفاع لا يوفران حماية كافية ضد التهديدات التي تأتي من إرهابيين متشددين أو دول مارقة متهورة تمتلك أسلحة دمار شامل.
وفي استراتيجية الأمن القومي لعام 2002 (NSS)، تم تقنين هذا المبدأ، معلنة أن "الهجوم الوقائي" سيكون أداة أساسية للولايات المتحدة للتعامل مع التهديدات المتوقعة من الإرهابيين والدول المارقة التي تطور أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيميائية. لم تدّع الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستهاجم أولاً في كل الأحوال، لكنها أوضحت أن الولايات المتحدة لن تنتظر حتى يقترب الهجوم من جانب العدو لتشن الهجوم أولاً.